Thursday, October 14, 2010

الرحيل الى الجبل

في السنوات الأخيرة بدا شعور غريب يتنامى لديه، شعور بعدم الانتماء إلى المكان الذي هو فيه وغربة عن الجسد الذي يقطنه، صور بيت صغير وشمعة بيضاء كانت تتبلور تدريجياً في فكره، وتزداد وضوحا يوما بعد يوم، حتى بدت وكأنها حقيقية. كانت ذات المشاهد تزوره في منامه... (بيت بسيط ... أعين تنظر أليه نظرات التبجيل والاحترام ... تعبيرات تنم عن الرجاء وأخرى عن الامتنان والشكر).



يوما بعد يوم ازداد وضوح الصور وأصبحت الأحلام وكأنها حقيقة وكأنه كان يعيش جميع التفاصيل، يسمع الأصوات ويرى الأوجه بوضوح ويشم روائح الأماكن.



اضطرب نومه وقل طعامه وانتابته نوبات من السرحان مما آثار حيرة وقلق زوجته وأولاده.



وفي يوم من أوائل أيام سبتمبر, حين كانت تتجلى بوادر الخريف جالبتاً معها مشاعر السكون والتأمل، وفي الهزيع الأخير من الليل، شعر وكأن هناك شخص ما يهزه هزا عنيفاً، وسمع صوتا بدا وكأنه مألوفاً يقول له "انهض, آن الأوان للرحيل". انتفض فجأة من نومه، نظر إلى وجه زوجته التي طالما شغف بها منذ أن رآها لأول وهلة وزاد حبه لها وقوفها إلى جانبه في مسيرة حياته، ما زالت ملامحها الرقيقة وطيبتها تتوج جمالها وهي قد جاوزت الخمسين من عمرها.



تجول بنظره بين اللوحات المعلقة على الجدار والتي اقتناها بنفسه لأفضــــل الرسامين العالميين... نظر إلى السقف المزخرف، انتقل بنظره من مكان لآخر وكأنه يستعرض في الأماكن والصور والجدران أحداث الماضي، التقت عيناه بضوء القمر من خلال الستارة المفتوحة. كان النسيم يحرك الستارة حركة خفيفة فظهرت وكأنها ترقص على أنغام هادئة مشكلة تموجاً رائعاً من الألوان وهي تمتزج مع أشعة القمر الفضية... انعكس الضوء على الأثاث في أرجاء الغرفة، فبدت أكثر رقياً وجمالا. وقع نظره على صور أولاده المرتبة فوق المنضدة المستديرة المغطاة بقماش ابيض مزين. تذكر طفولتهم البريئة ومراهقتهم وتجاوزهم إياها حيث أصبحوا الآن شبابا صالحين ناجحين في حياتهم، وأصبح لديهم أولادا وبنات.



كان لكل زاوية في منزله معنى خاص لديه. تذكر ضحكات أحفاده وتلهفهم لاستلام هدايا وحلوى العيد.



بدا يستعرض حياته... رحلة عمله وكفاحه في سبيل تحقيق أهدافه، عمل مرموق، بيت جميل، سيارتان، زوجة محبة وأولاد رائعين، محيط اجتماعي جميل، منطقة سكن راقية... شكر ربه وحمده على كل ما تحقق له.



لكنه تساءل مع نفسه: لماذا لا اشعر بالارتياح؟



هل هذا هو منتهى طموحي ؟



هل هذا هو الهدف الذي خلقت من اجله؟



هل أديت مهمتي في الحياة؟



هل واجبي في الحياة يقتصر على الذهاب إلى العيادة ورؤية الحالات المرضية واستلام المقابل من عملي أو إجراء العمليات واستلام الأجور عليها، حضور المؤتمرات الطبية و السفر إلى الخارج سواء للسياحة أو لحضور الاجتماعات، حضور جلسات العمل والولائم العائلية والتحدث مع أناس غالبا ما افتقدت تعبيراتهم إلى الصراحة و كلماتهم إلى الصدق المختبئ خلف سلسلة من الابتسامات والمجاملات.



هل تكمن مهمتي في التمتع برفاهية الحياة الرغيدة ومن ثم التقاعد؟



ربما سأقوم بإنشاء مشروع طبي واقضي وقتي بعد التقاعد بالسفر وممارسة هواياتي كالرسم والقراءة وسماع الموسيقى...... ومن ثم ورويدا رويدا تقترب ساعة النهاية وتطبق صفحة حياتي ويسجل اسمي في دفتر الوفيات وتعلق صورتي ويوضع عليها شريط اسود، ويبكي أولادي وتنتحب زوجتي كلما مر عليهم طيف ذكراي.



أليس في مقدوري أن أقدم للحياة والبشرية أكثر مما أقدمه الآن؟ لماذا لا أتجاوز فرديتي وانطلق إلى رحاب الإنسانية؟



حاول أن يخلد إلى النوم ثانية ويبعد عن نفسه تلك التداعيات، ولكن أوجه الأطفال المجهولين وهم ينظرون إليه بأعينهم البريئة، نظرات تطلب النجدة والمساعدة، صور البيت الخشبي والشمعة البيضاء، كانت توقظه مرة أخرى.



ومع انشقاق أول خيوط الفجر، أصبح الطريق واضحا لديه، قام بإيقاظ زوجته التي فزعت بادئ الأمر من سماع خبر مزعج لكنها اطمأنت برؤية قسمات وجهه الهادئة. تناولوا إفطارهم بهدوء تام وأشار إليها بان يذهبوا إلى الحديقة.



لم يعرف من أين يبدأ وكيف ينظم سياق الكلمات وبينما هو يفكر ، بدأت الكلمات تنساب من فمه وكأنها تأتي من مصدر آخر. عبر لها عن محبته وعن امتنانه لما فعلته له خلال رحلة حياتهم.... صمت برهة، ثم فاجأها بما عزم عليه من ترك المباهج والحياة المترفة والرحيل إلى سفح الجبل..



"حيث أتمعن في الطبيعة واستنشق رائحة الأرض واشعر بأشعة الشمس ونسائم الهواء تتغلغل في كل أجزائي، حيث لا مجاملات زائفة ولا كلام منمق، حيث لا تحاصرني دقات الساعة وقائمة المواعيد، فأعيش الحياة الفعلية وأعطي للإنسانية ما تطلبه مني."



فأجابت زوجته "لم لا تدعنا نستعد للرحلة ونخطط لمدة بقاؤنا هناك"



رد عليها:



"إنها ليست رحلة مؤقتة بل هي رحيل إلى حيث سأعايش تفاصيل الحقيقية"



"سوف آتي للمدينة فقط عندما احتاج لشراء أدوات جديدة حيث أن الرحلة إلى هنا ستكون طويلة وشاقة"



بدأت الدموع تنهمر من عينيها وتناما لديها إحساس قوي بأنهما سيفترقان. طالما كان يأتيها حدس بذلك بالرغم من عدم وجود سبب واضح له ولذا كانت تقنع نفسها في كل مرة بأنها مجرد وساوس، الآن فقط أدركت بان حدسها كان صحيحا.



كان من المستحيل بالنسبة لها أن تتخلى عن عملها وعن أقاربها وعن رؤية أولادها كل يوم وعن محيطها الاجتماعي، عن منزلها الذي يحمل في أرجائه حكاية حياتهم.



أحست بنبل نواياه فمسحت دموعها وحاولت أن ترسم على وجهها ابتسامة ووضعت يدها على يده وقالت له:



"امضي في طريقك وسأكون هنا كلما أتيت لزيارة المدينة"



جمع المعدات الضرورية لعلاج ما يتمكن من علاجه وجهز عدة الطريق وهم بالسفر.



قطع بسيارته الطريق المنبسط ثم الطريق الترابي ومشى بين الهضاب وهو يتحدث مع الأشجار والطيور. أحس وكأنه طفل ينفصل عن أمه وينطلق إلى العالم الفسيح، إحساس يقع بين حزن الافتراق عن أهله ومكانه وترك حياته السابقة وبين راحة الانطلاق إلى مدى الإنسانية الواسع والى رحلة المعرفة الأبدية.



وبعد رحلة استمرت ست ساعات، وصل إلى سفح الجبل، كانت الشمس واضحة في السماء التي تزينت بغيوم متناثرة هنا وهناك.



تسمر في مكانه حينما رأى نفس البيت الذي كان يراه في المنام. ترجل وطرق الباب فإذا بامرأة ارتسمت على وجهها علامات الخوف والقلق تفتح الباب، حاول الاستفسار عن سبب خوفها، قالت بان ابنها قد جرح نفسه ونتيجة لعدم إمكانية اكتمال العلاج حيث لم يتوفر لديهم إلا العلاج الشعبي وكان الانتقال إلى المدينة صعبا ومكلفا، تقرحت الجروح في قدميه، وبدأت درجة حرارته بالارتفاع.



عالج الطبيب جراح الطفل وعلم المرأة كيف تعتني به ثم سألها عن مكان للإقامة فأشارت إلى بيت خشبي مهجور. عندما دخل جذب نظره المنضدة الخشبية الموجودة في الوسط والشمعة البيضاء التي يبدو وكأنه لم يوقدها أحد من قبل.



أقام هناك. يوما بعد يوم, ازداد عدد المرضى الذي كانوا يتوافدون إليه، لم يكن طبيبهم فحسب بل كانوا يعتبرونه ناصحهم ومعلمهم.



كان يذهب إلى المدينة بين الحين والآخر لجلب ما يحتاجه إليه.



وبعد أربع سنوات تبرع بعض الممرضين للذهاب معه ففتحوا معا عيادة صغيرة عند سفح الجبل، وبعد عدة أشهر وافقت زوجته على مرافقته.



كانت سعادته تتنامى كل يوم إلى أن أتت أيامه الأخيرة، استلقى على فراشه البسيط بسعادة بالغة وهو ينظر إلى ضوء الشمعة يتلألأ أمامه.



دفن في سفح الجبل وأصبح أهل القرية يتبركون بتسمية أبناءهم على اسمه بل حتى أنهم أطلقوا اسمه على قريتهم.

No comments:

Post a Comment